الأحداث 24 – بقلم : محمد عبيد
لا يمكن تحديد الأعطاب التي باتت تكتنف “الديمقراطية التشاركية” والتي تم إقرارها دستوريا في محاولة لتجاوز اختلالات الديمقراطية التمثيلية من خلال إشراك فعلي وحقيقي للمجتمع المدني في تدبير الشأن العام، عبر تثمين وتقوية سبل إشراك جمعيات المجتمع المدني في إعداد وتنزيل السياسيات العمومية من خلال المواد الدستورية مع ضرورة إعادة النظر في كيفية تواصل الإدارة (عمالة الإقليم ومختلف السلطات المحلية والمصالح الخارجية والجماعات الترابية) مع مختلف مكونات المجتمع المدني، في فسحها المجال لسياسة القرب بعيدا عن الحساسيات والاعتبارات اللا ديمقراطية وفسح مجال واسع من أجل التواصل والانفتاح على مكونات المجتمع المدني وكل الفاعلين في جل المجالات الحيوية بالبلاد، وتجنب تدخل السلطات الإقليمية في تأسيس جمعيات على المقاس لخدمة مرافق وجهات معينة؟
قبل الدخول في مقاربة تحليلية لهذا الموضوع، هناك جانب أساسي وجب هنا الوقوف عليه، ألا وهو ما يسجل بامتعاض من تناسل جمعيات وتنبث كالفطر بعد غربلة هوية مؤسسيها ومدهم بالدعم للقيام بأنشطة موجهة وفي خدمة “النشاط حتى شاط” و”كولو العام زين” بخلفية تشكيل رأي عام يؤمن باستقرار الأحوال بكل أنواع الطبل والغيطة والبندير وهام جرا من أنماط الموسيقى الشعبية حتى ولو وصلت السكينة للمفاصل والعظام.
يعدّ المجتمع المدني القطاعَ الثالث من قطاعات المجتمع جَنبًا إلى جنب مع الحكومة وقطاع الأعمال، دون أن يتبع أيّ هيكليّة حكوميّة، وإن كان المعنى الأصليّ له هو المجتمع السياسي الذي يحكمه القانون في الدولة، ويؤسس هذا مجموعة من الأفراد البارزين والرائدين في شتى المجالات من منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وذلك لخدمة المجتمع، وتعزيز مؤسسات المجتمع وتنميتها، ضمن إطار قانوني نافذ على أرض الدولة، ودون الالتزام بنسق أو نظام ثابت وموحّد في كل الدول.
ومن أهداف المجتمع المدني وخصائصه حرّية تجمّعه وحصوله على المعلومة وشعوره بالانتماء والمواطنة، المنبثقة من الشفافية بوصفها ضمانة أساسية لحماية القطاع العام وترابطه وتماسكه، مما يمكّن الأفراد من الدفاع عن هويتهم المشتركة وحمايتها مقابل التزامهم بأداء واجباتهم نحو الدولة، وحماية وطنهم من الفساد والجريمة المنتشرة فيه.
وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن مهام المجتمع المدني والإصلاح السياسيّ، إذا علمنا أن المجتمع المدني هو جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة من أجل تلبية الاحتياجات الملحة للمجتمعات المحلية وفى استقلال نسبي عن سلطة الدولة أي أن المجتمع المدني عبارة عن مؤسسات مدنية لا تمارس السلطة ولا تستهدف أرباحا اقتصادية ولكن لها دور سياسي يتمثل في المساهمة في صياغة القرارات من موقعها خارج المؤسسات السياسية.
ويعد النزاع بين النظم السياسية ومؤسسات المجتمع المدني حول دورها السياسي مؤشرا على أن مسألة تنظيم الحدود والاختصاصات في المجال العام مازالت مسألة غير محسومة في السياسة العربية وليس كما تدعى النظم السياسية أن هذا الدور يخرج عن اختصاص المجتمع المدني.
وبالرغم من الجهد المتعمد والمستمر من جانب الدولة لإخضاع المجتمع المدني وإفشاله فضلا عن أن التمويل الأجنبي قد أثر على أداء بعض مؤسساته بحيث جعلها تهتم بقضايا ثانوية ضمن أجندات تابعة أو مفتعلة، فإن المجتمع المدني ما زال يلعب دورا سياسيا سواء فيما يخص القضايا السياسية والاقتصادية الداخلية أو القضايا المصيرية التي تتعلق بشئون الأمة.
إذا كانت الأهداف التي يخضع لها المجتمع المدني بصفة شاملة تهدف إلى تصحيح العلاقة التعاقدية بينه وباقي المؤسسات في إطار ديمقراطي مشترك يسهم في تنمية وطنية شاملة.
وسعيا لمأسسة حقيقية للمجتمع المدني وتحقيقا لمكتسباته الدستورية والقانونية، وربط علاقة متوازنة وفاعلة مع مختلف الدوائر والجهات والأجهزة من أجل العمل على تفعيل الأدوار الدستورية والرقي بها، فإنه للأسف اتجهت عند العديد في الاتجاه المعاكس حتى صار دور المجتمع المدني يسير دون المستوى المطلوب من التأثير في قرارات النظام السياسي -حتى الآن- وهو ما يفرض على مؤسسات المجتمع المدني تطوير رؤيتها للعمل السياسي والبحث عن ميادين ووسائل جديدة من أجل الحصول على التأثير الهادف لفرض مطالب مؤسسات المجتمع المدني على النظام السياسي.
قد يقول قائل ان لدينا مجتمعا مدنيا نشيطا؟ أقول فعلا لدينا مجتمعا مدنيا نشيطا بالشكل الذي يرغب فيه مصممو تكوين وليس تأسيس جمعيات/ همهم استخدام هذه الجمعيات لجميع الأغراض تحت غطاءات ملغومة بدعوى المساهمة في تنمية الوعي وتعميق الفكر والرفع من المستوى الثقافي والمعرفي والسياسي للمواطنين؟ مجتمع مدني يتحرك فيه الفاعلون وفق موجهات ومحددات يخطط لها المهندسون والمفوض لهم بذلك لصناعة وعي شقي بالمنطقة ونمذجة البشر على مقاس صناع الفرجة الانتخابية؟
وبالرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني لا تسعى للوصول إلى السلطة فإنها تقوم بدور سياسي بارز يتمثل في تنمية ثقافة المشاركة بما يدعم قيم التحول الديمقراطي فضلاً عن قيامها بدور أساسي في تربية المواطنين وتدريبهم عملياً وإكسابهم خبرة الممارسة الديمقراطية وهناك أيضاً ما يتعلق بمهام المجتمع المدني في تطوير ثقافة شعبية لدى الناس تقوم على إعلاء أهمية تنظيم الجهود الذاتية والمبادرات التطوعية في صياغة تنظيمية خلاقة تؤدى إلى الارتقاء بالوعي السياسي وبالثقافة السياسية وبما يدفع الناس إلى المشاركة الجادة في صناعة القرار السياسي وفى التأثير على سياسات الدولة في مختلف المجالات أو ما يعرف بالسياسات العامة.
إضافة إلى هذا كله، فالملاحظ أيضا أن النقابات المهنية تؤدى هذه الأدوار بشكل أكبر نسبيا- يليها جمعيات حقوق الإنسان ثم الجمعيات الأهلية التي تنخرط في العمل العام من خلال ما تقوم به من أنشطة تنموية – فقد ظهرت هذه النقابات بوصفها منابر سياسية بديلة استطاعت اجتذاب واستيعاب كافة القوى السياسية التي عجز النظام السياسي عن استيعابها.
خلاصة القول، لا يزال مصطلح “المجتمع المدني” غير محدد على نحو دقيق، فأحياناً نحن نتحدث عنه ونستخدمه، ولكن كل منّا يقصد أمراً مختلفاً وما يزال يثير التباساً كبيراً وتعارضاً شديداً بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد!! وما نزال بعيدين عن مجتمع بهيئات مدنية تبني الوطن بخرسانة القيم لا بجمعيات صفراء وبائعي أنشطة الرصيف على قارعة الابتذال والرداءة؟
لاشك أننا نريد مجتمعا مدنيا طيعا لا يناقش وبدون رأي ولا يشارك في اتخاذ القرارات الكبرى… لكم ما تريدون حتى إشعار آخر.
